زوجاً واحدا من حشرة الذبابة المنزلية لو بدأ تناسلها في شهر أبريل وتركت جميع أفراده تعيش حتى أغسطس من السنة نفسها فإن عدد الأفراد الناتجة تكفي لتغطية سطح الكرة الأرضية إلى عمق سبعة وأربعين قدماً. لكن العوامل الطبيعية التي هيأها الله تقضي على كثير من هذا النسل فلا تسمح لأن يصل عدد أفراده إلى أكثر مما كانت عليه أعداد الجيل السابق. لقد خلق الله سبحانه وتعالى الحشرات لحكمة بالغة،وللدلالة على قدرته التي لا تستطيع أن تحدها حدود التصور،وللتأكيد على تدبيره المحكم الذي يأخذ بالألباب.وقد يبدو للإنسان لأول وهلة صعوبة التوصل إلى حكمة شيء «ما» إلا أن الوسائل العلمية والتطور المعرفي بتوفيق من الله يكون تطورهما إلى الأعلى فيكشفان عن شيء من تلك الحكمة وليس الإحاطة بها. ومن المخلوقات التي خلقها الله لحكمة يعلمها وقد تخفى على كثير من الناس أن هناك حكمة من وجودها تلك الحشرات التي قد تؤذي الإنسان وقد تفسد محاصيله وقد تخرب موارده وقد تفتك ببيئته؛ ومع ذلك أثبتت الدراسات العلمية المتخصصة المؤيدة بالبراهين القوية أن لهذه الحشرات فوائد لا يمكن أن يستغني الإنسان عنها لمصلحة الإنسان نفسه ولهذه الأشياء التي تهمه من محاصيل وموارد وبيئة. وفي العصور القديمة لم تكن هناك مشكلة ظاهرة نتيجة وجود الحشرات أو حتى بسبب تكاثرها نظراً لاتساع المكان الذي يعيش فيه الإنسان وتوافر الغذاء فيه. وهذا الاتساع المكاني ووفرة الغذاء جعل التعايش بين الإنسان والحشرات سلمياً إلى حد ما وقد لا يشوبه سوى كدر الحالات التي تتسلط فيها تلك الحشرات على الإنسان ذاته تاركة سعة الأرض ووفرة الغذاء كما هي حال الذباب والبراغيث والقمل إلا أنه مع تقدم العمران البشري وكثرة النسل البشري بدأت الحرب بين الإنسان والحشرات تعلن عن نفسها تنافساً على المكان والغذاء وكانت أسلحة الإنسان في هذه الحرب في البداية بدائية لا تتعدى استعمال يديه والاستعانة بما حوله من أخشاب وأحجار ونحوها لطرد تلك الحشرات أو الفتك بها. ثم توصل إلى وسائل جديدة للمكافحة تمثلت في المبيدات والسموم يمكن وصفها بالشمول والسرعة وشدة الفتك. ولأن حكمة الله اقتضت بقاء النوع الإنساني وبقاء النوع الحشري كذلك فإن الانتصار المفضي إلى إبادة طرف للآخر لم يتحقق؛ فلا الحشرات استطاعت إبادة الإنسان الذي لم يكن يملك إلا وسائل بدائية لمحاربتها ومنع تكاثرها المرعب أو الحماية من سمومها وشرورها مقارنة بما تملكه هي نظرياً من مقومات مخيفة وقدرات عجيبة. كما أن إبادة الحشرات لم تتحقق للإنسان رغم ما توصل إليه في مرحلة لاحقة من حياته من وسائل فاعلة وقوية تأخذ طابع السرعة والشمول والنفاذ، وذلك لأن الله أودع في تكوين تلك الحشرات ما يساعدها على درء خطر الانقراض